ألقى فضيلة الشيخ الدكتور عبدالمحسن بن محمد القاسم إمام وخطيب المسجد النبوي خطبته اليوم حيث بدأ فضيلته بالشكر والثناء لله والصلاة على رسوله ﷺ ثم ذكر في خطبته قائلاً :إن معرفة الله أصل الدين، وقد تعرف سبحانه إلى عباده بأسمائه وصفاته، وذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله في القرآن أكثر من آيات الحلال والحرام، ومن أسمائه سبحانه “الحميد” الذي له من الصفات وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محمودًا وإن لم يحمده غيره، وقرنه تعالى في كتابه بالعزة والولاية والمجد والغنى والحكمة وحمده سبحانه هو مدحه والثناء عليه بصفات كماله ونعوت جلاله والإخبار بمحاسنه مع حبه وتعظيمه، فيحمد سبحانه على كماله وجماله في نفسه، وعلى أفعاله وإكرامه وإحسانه إلى خلقه ، والله تعالى حمد نفسه وأثنى عليها، وهو يحب المدح والحمد، ومدحه سبحانه لنفسه أعظم المدح وأعلاه، ولا أحد أعلم منه بما يستحقه من الحمد، فلا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه، قال الرسول صلی الله عليه وسلم: «ليس أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه» متفق عليه ، قال النووي رحمه الله: «حقيقة هذا مصلحة للعباد، لأنهم يثنون عليه فيثيبهم فينتفعون به، وهو سبحانه غني عن العالمين، لا ينفعه مدحهم ولا يضره تركهم ذلك» .
وافتتح الله الخلق بالحمد فقال : ﴿ والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ وافتتح سبحانه خمس سور من كتابه بحمده، أخبر فيها أنه خلق السموات والأرض، وأنزل الكتاب، وأرسل الرسل، وأمات وأحيا خلقه كل ذلك بحمده، وحمد نفسه على ربوبيته الشاملة لذلك كله في افتتاح كتابه العظيم ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ وحملة العرش يحمدون الله لا يفترون ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ وجميع الملائكة يحمدون الله ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾.
وما من نبي إلا كان يظهر الحمد لربه على اختلاف الأحوال، فقال الله لنوح عليه السلام: ﴿ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ وقال إبراهيم عليه السلام: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ﴾ وقال داود وسليمان عليهما السلام: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ وأمر الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يحمد الله ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ۗ﴾ وأمر سبحانه عباده أن يحمدوه ﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ۚ ﴾ ومن صفات المؤمنين الموعودين بالجنة أنهم حامدون الله ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ ﴾ والرعد يسبح بحمد الله والملائكة من خيفته .
وأضاف فضيلته :أن الحمد لله ذكر عظيم يحبه الله وهو أحق ما قاله العبد من الكلام وملازم له في يومه وليلته،ولا يخلو موطن منه في يوم وليلته، فعلى التوحيد والحمد يدور الدين كله، قال سبحانه: ﴿ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۗ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ قال شيخ الإسلام رحمه الله: «والحمد إنما يتم بالتوحيد، وهو مناط للتوحيد ومقدمة له، ولهذا يفتتح به الكلام، ويثني بالتشهد» ، ففي العبادات شرع الله لعباده افتتاح الصلاة بالحمد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينوع صيغ الحمد في أول صلاة الليل والنهار، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا في الصلاة يقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، فقال: « عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء » رواه مسلم ، والفاتحة سورة الحمد لا تصح صلاة إلا بها.
وإذا رفع العبد من الركوع قال: «سمع الله لمن حمده»،فإجابة الله لعبده معلقة على حمده لله، مما يجعل الحمد روح الصلاة وعمادها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من حمده لربه في هذا الركن، وينوع صیغه، ويصف حمده بالكثرة والطيب والبركة، وسمع رجلا يقول بعد الركوع: «ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فقال: رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أول» رواه البخاري ، ومجالس الذكر التي فيها حمد الله تحضرها الملائكة فيخبرون الله أنهم يسبحونه ويكبرونه ويهللونه ويحمدونه ويسألونه فيغفر لهم متفق عليه، واستفتاح الدعاء بالحمد حريٌّ بالإجابة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم ، فليبدأ بتحميد الله والثناء عليه » رواه الترمذي ،وكما أن الحمد ملازم للعبد في عباداته فهو ملازم له في أحواله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاما قال: «الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه» رواه البخاري ، وحمد الله عقب الأكل والشرب من أسباب رضوان الله والقرب منه قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها» رواه مسلم.
وأكمل فضيلته : ومن لازم الحمد سبق غيره قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال: حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده، مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة، بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه» رواه مسلم ، والحمد مع التهليل يعدل عتق رقاب، ويوجب حط الخطايا والسيئات. ومن قال: «سبحان الله العظيم وبحمده ، غرست له نخلة في الجنة» رواه مسلم ، وصيغة من الحمد ثوابها مضاعف قال النبي صلى الله عليه وسلم لجويرية رضي الله عنها: «لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه وزنة عرشه، ومداد كلماته» رواه مسلم ، والحمد والتسبيح خفيف على اللسان ثقيل في الميزان قال صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم » متفق عليه .
وبعد أن أكمل الله الدين على يد النبي صلى الله عليه وسلم وأتم عليه النعمة ودنا أجله قال الله له: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ ۚ ﴾ ، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الخلق حمداً لله، ويوم القيامة يبعثه الله مقاما محموداً يحمده عليه الخلائق كلهم، ويأتي وبيده لواء الحمد صورة ومعنى يقف تحته الخلق كلهم، قال عليه الصلاة والسلام: « أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي» رواه أحمد.
واختتم فضيلته : الحمد قرين التسبيح وتابع له،فالتسبيح تنزيه الله عن النقائص، والحمد إثبات الكمال والجمال له على الإجمال والتفصيل، وكل منهما مستلزم للآخر، وإذا ذكر أحدهما مفرداً شمل معنى الآخر وتضمَّنه، وذكر العبد ربه أمارة صدق محبته لمولاه، ومن عرف به بحمده وذِكرِه في الرخاء عرفهُ في الشدة، ومن ذكرهُ كثيراً كان من المفلحين.